يعتبر مجال العملات الرقمية أحد مجالات العمل والاستثمار الحديثة والجديدة من نوعها، فلم يمض سوى بضع سنوات على ظهور سوق العملات الرقمية وتقنيات بلوكتشين والتمويل اللامركزي DeFi والويب 2.0 والويب 3.0 التي تقوم عليها شبكات العملات الرقمية، ورغم ذلك فإنها لم تسلم من التعرض لعمليات السرقة والاحتيال، بل على العكس تماما، إذ انصب جل تركيز المخترقين واللصوص على زيادة استهداف منصات العملات الرقمية وسرقة ملايين بل مليارات الدولارات خلال زمن قياسي.
ويبدو أن العام الحالي 2022 الذي يصل إلى نهايته، قد شهد ذروة لم نعهدها من قبل في جرائم السرقة والاختراق، التي تأخذ في التزايد مع مرو الأيام واكتساب العملات الرقمية مزيدا من التبني والشعبية.
تشير البيانات إلى أن عدد عمليات السرقة المرتبطة بالعملات الرقمية قد بلغ 190 جريمة حتى تاريخ 9 ديسمبر الجاري، بزيادة عن العام الفائت 2021 وصلت إلى 43.93% والتي بلغت وقتها ما مجموعه 132 جريمة.
ولعل أبرز زيادة كبيرة وسريعة، كانت بين العامين 2017 و2018، إذ بلغ عدد جرائم العملات الرقمية في عام 2017 فقط 9 جرائم، فيما وصلت إلى 38 جريمة في عام 2018 بزيادة قدرها 320%، فيما بقي عام 2011 هو العام الأقل في تسجيل الجرائم التي وصلت إلى 4 جرائم فقط.
وبلغت فيمة خسائر منصات العملات الرقمية نتيجة أكبر 10 عمليات اختراق للعام 2022 ما مجموعه 4.28 مليار دولار، لتتصدر شبكة Ronin المرتبة الأولى من حيث أكبر خسارة في عملية واحدة، التي تعرضت للاختراق في شهر مارس الفائت وخسرت على إثره 620 مليون دولار، تلتها شبكة Poly بقيمة خسارة وصلت لـ610 مليون دولار. فيما احتلت منصة بينانس المرتبة الثالثة بقيمة 570 مليون دولار عقب تعرضها للاختراق أكتوبر الماضي، لتأتي بعدها في المرتبة الرابعة شبكة Coincheck بخسارة قدرها 532 مليون دولار.
أما منصة FTX التي شغل حدث اختراقها وانهيارها سوق العملات الرقمية بأكمله، فقد صنفت في المرتبة الخامسة عقب خسارتها 477 مليون دولار، تليها منصة MT Gox التي خسرت 470 مليون دولار عند اختراقها هذا العام.
لا تبشر إحصائيات الجرائم السابقة بالخير مطلقا، فإن ما وصلت إليه الحال لهذا العام 2022، تشير إلى وجود مشاكل كثيرة تواجهها شبكات العملات الرقمية مرتبطة بقضايا أمن الشبكات وحماية أصول المستخدمين الرقمية. ورغم أن سوق العملات الرقمية تشهد حالة سيئة بسبب الانخفاض والانهيار المستمر، إلا أنها ما تزال محط أطماع المخترقين لكسب الأموال بسهولة وبكميات كبيرة.
ويبدو أن المجرمين يعملون لاستغلال ضعف التنظيم في سوق العملات الرقمية، والاستفادة من وجود الكثير من منصات العملات الرقمية، لتي يستغلونها في تنفيذ هجومهم من أكثر من نقطة واحدة، وبالتالي يصعب تحديد هوية المخترقين بدقة أو اكتشاف نقطة نقل العملات لاحقا، وبالتالي يكسبون درجة من الحرية في التنقل بين المنصات وحافظ العملات الرقمية، مما يزيد درجة التحدي بينهم وبين القائمين على الشبكات بهدف إلزامهم حدهم وإيقافهم من إلحاق المزيد والمزيد من الضرر للمستخدمين.
يقوم لصوص العملات الرقمية عادة باستهداف مفاتيح المستخدمين الخاصة بالوصول للأموال، عبر خداعهم بمواقع ومنصات مزيفة، ومن ثم الحصول على بياناتهم ومعلوماتهم الشخصية دون علم من المستخدمين أنهم قد سلموا مفاتيح ما يملكون للمجرمين بكل سهولة. إلى جانب قيامهم باستغلال جسور بلوكتشين لارتكاب جرائم الاختراق والسرقة والتلاعب بسوق العملات الرقمية.
ويعهد المجرمون لتغيير سياسة عملهم بشكل مستمر، واستهداف المنصات الأكثر شعبية بين مستخدمي العملت الرقمية، فقد شهدنا مؤخرا تزايدا في عدد الجرائم التي استهدفت منصات العملات الرقمية ذات التمويل اللامركزي DeFi، والتي تملك شعبية واسعة في سوق العملات.
يرى بعض محللو سوق العملات الرقمية، أن عمليات الاحتيال والسرقة تأخذ شكلا جديدا يعتمد على استخدام منصات العملات الرقمية المركزية. والجميع يعلم أن جرائم الاحتيال وخداع المستخدمين التي ارتكبها بانكمان فريد، مؤسس شركة FTX، قد أدت لانهيارات واسعة في سوق العملات الرقمية، إذ اكتست مؤشرات السوق باللون الأحمر التي لا تنفك عن خلعه، فقد قام بانكما بسرقة أموال المستخدمين والهرب بها، مخترقا جميع القواعد والمعايير.
رغم أن منصات العملات الرقمية المركزية قد قامت بالعمل على زيادة مستوى الأمان من خلال إلزام الجميع بتنفيذ بروتوكول التحقق من الهوية KYC، إلى جانب السعي في مكافحة غسيل الأموال ومنع استخدامها في تمويل مشاريع غير شرعية، كل هذا كان يجب له أن يساعد في إبعاد أعين المتطفلين عنها.
ويعمل مخترقو منصات العملات الرقمية على استغلال كل نقطة ضعف تُتاح أمامهم، وخاصة تلك الموجود في برمجيات المنصات، إلى جانب استخدامهم لتقنيات تعمل على إخفاء معاملات بلوكتشين التي تشير إلى قيامهم بنقل المسروقات، ناهيك عن استخدامهم للمحافظ الباردة التي تعتبر من أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تحدث عند سرقة العملات.
قلة من قلائل المستخدمين الذين تعرضوا لسرقة أموالهم، قد حصلوا على تعويضات من منصات العملات الرقمية التي يستثمرون بها. وتوجد حالة من التنبه والخوف في حال إلزام المنصة نفسها في تعويض خسائر المستخدمين، خاصة في الحالات التي تصل فيها قيمة الخسائر إلى حد كبير، تماما كما حدث مع منصة Mt Gox، عندما توصل ممولها إلى إجراء صفقة لتعويض المتضررين جراء اختراقها، إذ خشي البعض حدوث انهيار في السوق بعد القيام بتوزيع كمية كبيرة من الأصول الرقمية.
يبدو أنه في ظل تطور لصوص العملات الرقمية وزيادة خبراتهم في سرقة المنصات، والتعامل مع المسؤولين عليها واستغلال نقاط ضعفهم، لا يمكن التنبؤ أو التوقع بالذي سيحدث مستقبلا، إلى جانب عدم وجود المقدرة على التخلص منهم، لذا يتوجب على كبار شركات العملات الرقمية والمستثمرين الذين يملكون القدرة على التحكم في السوق، التوحد في صف واحد ووضع لوائح تنظيمية جديدة لسوق العملات الرقمية، تسد الثغرات وتقف بالمرصاد في وجه الموجات المتلاحقة من السرقة والاختراق.
ولا بد من أن تجدي التدابير الأمنية وزيادة الرقابة على سوق العملات الرقمية نفعا في حماية المستخدمين وتقليل مفعول جرائم الاختراق والسرقة، ويجب أن يرافق تطور تقنيات تداول العملات واستثمارها، تطويرا للأنظمة والتشريعات التي توفر بيئة عمل آمنة ومتكاملة، تضمن حقوق المشاركين، وتبعد خطر المتطفلين.