يشهد سوق العملات الرقمية هبوطاً مستمراً، دون تحديد قاع لهذا الهبوط خلال الفترة الحالية، والذي انعكس سلباً في تحويل أغلب المحافظ الرابحة إلى خاسرة بشكل ملحوظ، وقد يصل الأمر إلى فقدان المستثمرين الجدد الأمل بالبيتكوين وبقية العملات الرقمية.
وقد اعتاد المستثمرون أن تكون تقلبات سوق العملات أعلى من المتوسط بقليل في أشد حالاتها، لكن هذا العام كان تقلباً مختلفاً مع الأسف، إذ كان هبوطاً متطرفاً يختلف عن سابقاته بكثير.
بعدما حطّم زعيم العملات الرقمية وهو البيتكوين حاجز التوقعات بوصوله إلى أعلى مستوى في أسعار العملات عند 69.4 ألف دولار، رضخَ البيتكوين لتخبطات السوق ليشهد انهيارا فظيعاً على مدار 11 شهراً متواصلاً، ليصل السعر إلى أدنى مستوى عند 17.6 ألف دولار بشكل غير متوقع، محققاً نسبة هبوط بلغت 75% من قيمته الفعلية الأضخم.
وحتى الإيثيريوم التي تعد من حيث القيمة السوقية ثاني أكبر عملة رقمية، قد نالت نصيبها من تخبط السوق، رغم قيامها بتصحيحات تجاوزت نسبتها 82%، لتنخفض قيمتها خلال سبعة أشهر فقط من 4800 دولار إلى 900 دولار.
وترتب على ذلك انخفاض معنويات المستثمرين، بحيث أصبحوا يتجنبون المخاطرة ويترقبون السوق، لمعرفة ما إذا كانت سياسة النقد الحالية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، ستخفف من التضخم الكبير الذي يشهده السوق بشكل مستمر في الولايات المتحدة أم لا.
قام مؤخراً رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بإعلانه رفع سعر الفائدة بنسبة 0.75%، ويقول أن هناك ارتفاعات مماثلة قريبة ستحدث، في سبيل تحقيق مساعي تخفيض التضخم الحاصل، حتى يصل إلى هدف البنك البالغ نسبته 2%.
ولكل نتيجة سبب، وسبب انخفاض أسعار العملات الرقمية ليس واحداً. بل هناك مجموعة من الأسباب، كان اجتماعها كارثة حقيقية لسوق العملات الرقمية.
ولعلّ أبرز الأسباب كان رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة، الذي زاد من تكلفة اقتراض المستهلكين والشركات للأموال، والذي يؤثر بشكل غير مباشر من خلال ما يترتب على ذلك من رفع تكاليف السلع والخدمات والأجور، والتكاليف التشغيلية للأعمال والإنتاج أيضاً، أي بمعنى آخر وصريح. ارتفاع تكلفة كل شيء تقريباً للأسف الشديد.
تَفاقُمُ التضخم بشكل غير معقول وغير قابل للردع، كان الأساس الذي أدى إلى قيام البنك الفيدرالي برفع أسعار الفائدة، إذ شهد سوق العملات الرقمية، والبيتكوين خصوصاً، حالة تصحيح هي الأوسع منذ مارس الفائت عندما ارتفع سعر الفائدة وقتها.
عند حدوث تغييرات في السياسة النقدية أو الاعتمادات التي يتم من خلالها قياس قوة الاقتصاد، فإن العملات الرقمية المسيطرة على السوق تتأثر بتلك التغييرات مُظهِرةً النتيجة وراء ذلك في وقت أبكر من الذي تظهره بقية الأسهم العادية.
وكما حدث في عام 2021 عندما أشار البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى خططه في رفع أسعار الفائدة، كانت بيتكوين وإيثيريوم هما المتنبئ الذي أشار إلى مستقبل سوق الأسهم، بعد التصحيح الحاد الذي حصلت عليه بيتكوين نهاية العام 2021.
وعند بداية تراجع التضخم وتحسن قوة الاقتصاد، أو إشارة البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى إجراءات من خطته النقدية، فلا بد لسيناريو 2021 أن يتكرر، وأن تتنبأ كل من بيتكوين وإيثيريوم بمصير التضخم وكَمّ المخاطرة الذي يمكن أن يُغامر به المستثمرون.
لطالما كان الاتفاق بين الأطراف هو السبيل لتحقيق مصالح كل منهما، لكن يبدو تعدين العملات الرقمية والمنظمين له، يملكون تاريخاً طويلاً من الخلاف وعدم التوافق، سواء بسبب سوء فهم منهم لبعض المفاهيم المرتبطة بينهم، أو فقدان الثقة المتبادلة بين الطرفين في حالة الاستخدام الفعلي للعملات الرقمية.
ويُولِّد بقاء قطاع التعدين بدون إطار تنظيمي لعمله، سياسات متضاربة من قبل البلدان حول تصنيف العملات الرقمية، وكيفية التعامل معها في الحياة الواقعية، والاستفادة منها بما يحقق مصلحتها الاقتصادية وبشكل قانوني، بالإضافة إلى أنها تترك آثاراً سلبية تعيق تطوير هذا القطاع ونموه.
وليصبح تداول العملات الرقمية عالمياً وعامّاً، يرى المحللين أنه لا بد من الاتفاق حول وثيقة تضم مجموعة من القوانين والتشريعات، التي تنظم قطاع العملات الرقمية، وتكون بنفس الوقت مفهومة للجميع ومتفق عليها من قبل الجميع أيضاً.
ونضيف على الأسباب السابقة في تضخم سوق العملات، هو عمليات الاحتيال المتكررة طوال فترة العام، إضافة إلى نظام بونزي الهرمي الذي يجذب المستثمرين، عن طريق تقديم وعود كاذبة في تحقيق عائدات كبيرة دون أية مخاطر، لكن في حقيقة الأمر. مخطط بونزي يعتمد على دفع مستحقات المستثمرين السابقة من أموال المستثمرين الجدد.
ناهيك عمّا تفعله الأخبار والشائعات الكاذبة التي تضر السوق، وتوهم المستثمرين في وجوب سحبهم السيولة من السوق، مسببة بذلك أضراراً كارثية نتيجة عدم التنظيم والردع لوسائل الإعلام السيئة، ورواد سوق العملات والتعدين اليوم حديثو العهد في هذه الصناعة.
فمقارنة مع أصحاب سوق الأسهم في العالم الحقيقي، الذين أنفقوا من عمرهم الكثير في البورصة والتدوال المالي، قد اكتسبوا من الخبرة ما يمنح سوق المال العالمي، نوعاً من الاستقرار والتنظيم في إدارته وحل مشكلاته.
وكمثال عن سوء الإدارة والتنظيم، كان انهيار شبكة لونا التابعة لشركة تيرا، وإساءة منصة Three Arrows Capital في استخدامها سياسات الرافعة المالية وإدارة أموال المستثمرين، كفيلاً بتحقيق ضربات متتالية في أسعار سوق العملات الرقمية.
وترتب على انهيار النظام البيئي لكل من تيرا ولونا، عمليات تصفية متعددة وتراجع في معنويات المستثمرين، مما أدى إلى تصحيح البيتكوين لسعره بشكل حاد.
وتكرر نفس الشيء ولكن بشكل أكبر عند انهيار كل من Voyager و3AC وCelsius، الأمر الذي أدى إلى محو عشرات مليارات الدولارات من أموال المستثمرين والحسابات الرقمية بشكل نهائي.
تبقى أسعار العملات الرقمية مرهونة بسياسات الاحتياطي الفيدرالي، أي أن قدرة تأثيره الأخيرة في رفع أو خفض أسعار الفائدة هي العامل الحاسم في خفض تضخم السوق أو زيادته، والتي تظهر آثاره جلية على كل من بيتكوين وإيثيريوم وأسعار العملات الرقمية.
وفي الفترة المقبلة، من المتوقع أن تبقى مخاطرة المستثمرين مجمدة، لحين ظهور علامات على أن التضخم قد بلغ ذروته الأعلى، ليبدأ بعدها الاحتياطي الفيدرالي بسياسة فاعلة وحقيقة تُؤتِي أُكُلهَا في إعادة الهدوء لسوق العملات الرقمية، وأن يتحقق الاستقرار. ليعود بعدها الألق الذي عهدناه لبيتكوين وإيثيريوم وبقية العملات الأخرى.