أدت الحرب العالمية الثانية التي امتدت سنوات، إلى تضرر الاقتصاد العالمي بشكل كبير، وكإجراء إسعافي لاستعادة زمام الأمور، وإيقاف ذلك التدهور، قام ممثلو 44 دولة مناهضة لسياسة هتلر وحروبه الدامية، بالتحالف لاعتماد اتفاق لنظام مالي جديد، أطلق عليه اسم بريتون وودز أثناء عقد المؤتمر الخاص بتلك الدول.
لجأ هذا النظام النقدي الجديد إلى الاعتماد على القيمة الثابتة للذهب، والتي تعادل 35 دولار مقابل أونصة واحدة من الذهب، إضافة إلى أسعار الصرف المستقرة للبلدان المشتركة بالتحالف، المحددة وفق ما يقابلها من الدولار أيضا، وذلك بسبب اعتبار اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، الأقوى والأكبر في ذلك الحين، إضافة إلى أنه من أقل المتأثرين سلباً بتلك الحرب، ناهيك عن امتلاكها نصف احتياطيات الذهب العالمية آنذاك.
واستطاع بذلك نظام بريتون وودز أن يقوم بتأمين قيمة العملات المحلية لتلك الدول من خلال احتياطي الذهب، إضافة إلى ضمان توفير قابلية تحويل الدولار وجعله معيارا للنقد والعملة الاحتياطية الأولى في العالم.
وأدت هذه الإجراءات واتخاذ العديد من التدابير، إلى تعاف كامل للاقتصاد العالمي مع أوائل خمسينيات القرن الماضي، حيث شهد الاقتصاد نمو متسارع على مدار 25 عاما متواصلا، حيث سماها الغرب بفترة المعجزة الاقتصادية عقب الحرب.
واستمر الطلب المرتفع على الدولار خلال تلك الفترة، ولتقوم الولايات المتحدة بتلبية الطلب على العملة، قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بطباعة الدولار بشكل متزايد أكثر من زيادة كميات احتياطي الذهب المقابلة له. لكن مع بداية فترة ستينيات القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة بالاشتراك في حرب فيتنام، التي ترتب عليها توجيه الإنفاق الحكومي نحو متطلبات تلك الحرب، وجرى تغطية جزء منها من قبل الاحتياطي الفيدرالي مباشرة عبر مطابعه.
وبعد تولي ريتشارد نيكسون رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1969، أصبحت إجمالي مطبوعات الدولار ما قيمته 4 أضعاف احتياطي الذهب آنذاك، الأمر الذي أدى إلى إثارة القلق والتخوف من حصول زعزعة في استقرار الاقتصاد العالمي، خاصة أنه بعد وصول الدولار إلى قوة كبيرة جعلت عمليات تصدير السلع خارج الولايات المتحدة بالأمر المكلف جدا، الأمر الذي دفع ألمانيا الاتحادية وسويسرا للانسحاب من المنظومة الاقتصادية بريتون وودز، إضافة إلى تحويل عدة دول أخرى تعاملاتها في شراء الدولار مقابل عملاتها المحلية إلى الذهب.
قام الجانب الأمريكي بتحركاته فعلاً، ففي العام 1971 ومع بدايات شهر أغسطس، أشار الكونغرس الأمريكي إلى وجوب تخفيض قيمة الدولار، الأمر الذي كانت تعمل عليه حكومة نيكسون لتعد قرار رسمي بذلك. لم يطل الأمر كثيرا حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي نيكسون فصل الدولار عن الذهب، ليسجل هذا الحدث في يوم 15 أغسطس تحت اسم: صدمة نيكسون.
وتضمن خطاب نيكسون توضيحاً بشأن عملية تخفيض قيمة الدولار، موضحا أنه لن يحدث فارق بالنسبة للمواطنين الأمريكيين، فقيمة الدولار هي واحدة اليوم وغدا، لكن بالنسبة لمن هم خارج أمريكا، فسيكلفهم ذلك دفع القليل من الدولارات الإضافية عند شراء منتج ما.
ومع توالي ظهور رفض معيار الذهب، الذي أصبح مكلفاً لكثير من الدول، لجأت الدول إلى إصدار المزيد من العملات الورقية الوطنية، والتي نجم عنها ولادة أسواق عالمية جديدة للعملات الوطنية لتلك الدول إضافة إلى ظهور أسعار السوق السوداء لتلك النقود. وأصبحت المصارف المركزية ذات قدرة على اتباع سياسات نقدية مجدية أكثر، أهمها كان زيادة المطبوعات في العملات الوطنية الورقية، من أجل حل المشاكل الاقتصادية المرتبطة بالدولة.
وشهدت فترة سبعينيات القرن الماضي أزمة ركود ضخمة ضربت الأسواق في الولايات المتحدة والدول الغربية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة العملة في ظل انخفاض النمو الاقتصادي. وقامت إدارة ريغان بتخفيض كبير للضرائب، وخاصة تلك المفروضة على الشركات، في إطار تحسين الاستثمار وجذب المزيد منها، إضافة إلى حل مشاكل البطالة وتأمين فرص عمل للجميع. ويذكر أن ريغان قام بزيادة تمويل المشاريع العسكرية وأجهزة الدولة الأمنية، على حساب مشاريع تمويل الحكومة للبرامج الاجتماعية.
وكان من الممكن لتلك الإجراءات أن تنجح في حل المشاكل الاقتصادية والبطالة، إلا أن انخفاض الواردات الضريبية وزيادة تمويل المشاريع العسكرية، أصاب ميزانية الولايات المتحدة بعجز حاد، لتقوم بتغطيته من خلال مراكمة الديون على نفسها، واستمرت في هذه السياسة، إلى أن أصبحت في العام 1988، أكبر مقترض في العالم، بعد أن شهد رقمها السابق من الدين الوطني زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف، لتخسر لقب أكبر مقرض.
وشهدت الولايات المتحدة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، نظام نقدي جديد، ذلك تزامنا مع إعلان ريغان للنيوليبرالية في الاقتصاد والمحافظين الجدد في السياسة، الأمر الذي نجم عنه عواقب اقتصادية واجتماعية بليغة استمرت لفترات طويلة، حيث بقيت الأجور منخفضة لفترة طويلة جدا من الزمن، حيث يذكر أنها لم تشهد نموا سوى 10%، وعلى طول امتداد الفترة الزمنية من عام 1964 وحتى العام 2018 في قرننا الحالي، ذلك كان سببا في زيادة الفوارق الطبقية بين فئات المجتمع الأمريكي كافة.
ويُجمِع العديد من الباحثين وعلى رأسهم، ساتوشي ناكاموتو، أن العملة الرقمية البيتكوين قد ظهرت نتيجة لمخرجات المدرسة النمساوية الاقتصادية وحلفائها. ولاتزال تلك الفترة عالقة في أذهانهم، إذ يتفق أغلبيتهم على أن معيار الذهب كان الأفضل، مقارنة مع الخدمات المصرفية الاحتياطية والجزئية.
وتكرر حدث الأزمات المالية عام 2008 أيضا في العصر الحديث، لتكون البيتكوين هي الحل لتلك الأزمة. وبعد ذلك اتبعت الولايات المتحدة ومعها دول أخرى، سياسة التيسير الكمي، التي من خلالها قامت المصارف المركزية بشراء أدوات الدين الإشكالية، بمقابل تقييض نطاق إصدار العملة، والحفاظ على سعر فائدة منخفض، مع تجنب خطر الوصول لحالة من التضخم الزائد في الوقت نفسه.
ويضيف ناكاموتو الحديث عن مشاكل العملات التقليدية الورقية، التي يرى أبرزها موضوع الثقة، فهو عامل مهم وضروري لنمو أي عملة والمحافظة على ثباتها في السوق. الأمر الذي يتطلب أيضا الثقة بالمصارف المركزية للحفاظ على سعر وقوة العملة، وضمان استمرار عمليات السحب والتحويل للعملات عبرها. لكن في حقيقة الأمر، ما تقوم به تلك المصارف هو استخدام تلك الأموال لتحصيل قروض بقيم أكبر من مصارف أخرى أو شركات كبرى أو حتى البنك الدولي، تاركة جزءا يسيرا من تلك الأموال كاحتياطي لها.
ويرى مجتمع العملات الرقمية أن حل جميع تلك المشاكل الاقتصادية يكون باللجوء لسوق العملات الرقمية نفسها، التي بدأت منذ حدث صدمة نيكسون في السبعينيات، واستمرت أضرارها على الاقتصاد العالمي إلى الآن.
وفي كل شر جانب من الخير، إذ يرى الباحثون وخاصة الاقتصاديين الاحترافيين منهم، فرغم الجوانب السلبية لحدث صدمة نيكسون، لكن يكفي أنه لم يتم العودة إلى معيار الذهب، من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية للنظام العالمي، التي تأذت بعد تلك الصدمة.
ويشير البعض إلى عدم وجود صلة وصل مباشرة بين النظام النقدي وزيادة مستويات الركود والفروقات الطبية في المجتمع، حيث قام مؤلفي كتاب WTF Happened بإظهار علاقة بين الطرفين، لكن ليست من الثنائية “سبب ونتيجة”، والتي تختلط على الكثيرين. ويأتي مشروع الكتاب في محاولة لتقديم الاستفسارات والأسئلة، بدلا من الإجابة عليها. فيجدون أنه في نهاية الأمر لم يحدث انخفاض في مستوي المعيشة لدى الغرب والعالم في فترة السبعينيات، بل شهدت ارتفاعا كبيرا وملحوظا من قبل الجميع.