لم تبذل الولايات المتحدة الأمريكية جهدا حقيقيا للاحتفاظ بمنصات العملات الرقمية ومستثمريها ضمن ساحات أسواقها الكبيرة، ويبدو ذلك جليا من خلال المصائب المتكررة التي لحقت بسوق العملات الرقمية خلال العامين الماضين وأثقلت كاهلها.
ما هو تسلسل أزمات سوق العملات الرقمية خلال الفترة الماضية؟
فقد شهدنا العام الماضي انهيارات كبيرة في سوق العملات الرقمية، بدأت بانهيار أحد أكبر عمالقة شركات العملات الرقمية “FTX” تلاها تداعي العديد من المنصات والشركات الأخرى، إلى جانب هبوط سعر البيتكوين إلى مستويات قياسية مخيفة.
ومع بداية العام 2023 كان التداول في السوق يسير على نحو جيد، وبدأت الأمور تعود إلى نصابها، ولكن كما يقول أهل الأمثال: “يا فرحة ما تمت”، إذ شهد سوق المصارف الأمريكية انهيارات كبيرة بالجملة هي الأخرى، قدر الخبراء خسائرها بنحو 400 مليار دولار على الأقل.
وعلى إثر ذلك تداعى سوق العملات الرقمية بشكل واضح، وخسرت منصات العملات الرقمية ومشاريعها الكثير والكثير من قيمتها بما فيها البيتكوين التي كانت تقاوم عند مستوى 30 ألف دولار أمريكي، بعدما وصلت في أواخر العام 2022 إلى مستوى 15 ألف دولار فقط.
ولكن لكل قصة في هذه الحياة بطل، وبطل قصتنا كان هذه المرة هو منصة بينانس، والتي بدأت بالتحرك لإعادة إنعاش التداول في سوق العملات الرقمية، خاصة بعد رفع سعر الفائدة عدة مرات خلال الأشهر الـ10 الأخيرة.
كما وعدت الحكومة الأمريكية بتعويض المستثمرين وعملاء المصارف المفلسة بدلا عن خسائرهم، وقامت بالتحرك لوضع حلول وتطبيق خطط إسعافية مرتبطة بالجانب المادي والإداري، تمثلت بتشكيل صندوق مالي طارئ لدعم المصارف، والتعهد بإصدار إطار تنظيمي شامل ومتكامل لسوق العملات الرقمية يضمن حقوق كافة الأطراف المشاركة.
لجنة الأوراق المالية الأمريكية لا تكف عن العبث
بات حلم المستثمرين اليوم هو العمل في بيئة منظمة يسودها القانون بعيدا عن التلاعب والاختراق والسرقة والتطفل، وتدخل بعض المسؤولين للتلاعب بالسوق ونهب مليارات الدولارات على حساب بقية المستثمرين والمستخدمين.
ولم يتوقف الأمر على انهيار سوق المصارف فحسب، بل تبعه معاودة لجنة الأوراق المالية الأمريكية شن حربها على منصات العملات الرقمية، ولكن هذه المرة اختارت أهدافا حساسة تمثلت باستهداف منصتي بينانس وCoinbase خلال أقل من 24 ساعة، بحجة مخالفتهما قوانين الأوراق المالية الأمريكية.
وعاد السوق للانهيار من جديد بعد أن كان بدأ يلتقط أولى أنفاسه عقب أزمة المصارف الأخيرة، ليزيد رصيد المعاناة والخسائر التي يتعرض لها المستثمرون في أمريكا، الأمر الذي دفعهم للتفكير في جدية مغادرة هذه السوق البائسة وإيجاد بدائل أكثر استقرارا تدر عليهم أرباحا جيدة.
تحرك ملحوظ لمنصات العملات الرقمية للخروج من السوق الأمريكية
بالفعل بدأت العديد من شركات العملات الرقمية بالتحرك خارج حدود السوق الأمريكية، وبدأت بالبحث عن البدائل، بما فيها منصات بينانس وCoinbase وOKX وByBit وBitstamp وGemini وغيرها.
وتتجه أنظار المستثمرين في سوق العلات الرقمية اليوم نحو منقطة الشرق الأوسط والقارة الآسيوية، متمثلة بدولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة دبي ومقاطعة هونغ كونغ إلى جانب بعض دول أوروبا.
فقد تلقت منصة Coinbase ترحيبا من سوق هونغ كونغ عقب تغريدة حديثة لجوني نج، عضو بارز في المجلس التشريعي في هونغ كونغ، رحب فيها بمنصة Coinbase في سوق هونغ كونغ، إلى جانب ترحيبه بجميع المنصات المركزية التي تريد الرحيل من سوق الولايات المتحدة.
كما ذكر جوني نج، أنه سيقدم الدعم والمساعدة في تسهيل انتقال هذه المنصات إلى سوق هونغ كونغ، وهذا بالطبع مؤشر جديد لانفتاح هونغ كونغ على هذه الصناعة.
بينما حصلت منصة OKX على ترخيص في دبي من لجنة تنظيم الأصول الافتراضية VARA في دولة الإمارات، من أجل بدء تقديم خدماتها للمواطنين الإماراتيين والمقيمين هناك.
وخلال بيان صحفي لشركة OKX العالمية، بينت الشركة أن الترخيص الذي حصلت عليه المنصة، هو تحضيري من أجل البدء بتقديم الحد الأدنى من الخدمات والمنتجات، مع الامتثال لقوانين وشروط لجنة VARA الإماراتية، التي أظهرت مرونة كبيرة في تقديم لوائح تنظيمية متقدمة ومريحة في التداول والاستثمار على عكس نظيرتها الأمريكية، لتصبح دبي مركزا حقيقيا بوجود أكثر من 500 شركة عملات رقمية.
أوروبا تفلح في وضع أطر تنظيمية صارمة ومتينة
كما حصلت منصة Bitstamp على تصريح تنظيمي في 13 من يونيو الجاري، وفقا لما أوردته هيئة السلوك المالي FCA، لتصبح المنصة ثاني شركة تحصل على الموافقة خلال يومين بعد منصة Interactive Investors (UK).
يشار أنه للعمل في المملكة المتحدة، يجب على شركات العملات الرقمية اجتياز اختبارات مكافحة غسيل الأموال الصارمة التي تفرضها هيئة السلوك المالي الفيدرالي FCA، فيما يأمل مجتمع العملات الرقمية أن تتبع المملكة المتحدة نهجا أكثر تساهلا من هيئة السلوك المالي FCA فيما يتعلق بلوائح التنظيم.
إلى جانب أن القارة الأوروبية قد استطاعت الوصول إلى درجة عالية من التنظيم، وخاصة بعد موافقتها على وثيقة العمل المشتركة MiCA لتداول العملات الرقمية، والتي عالجت الكثير من الثغرات والمشكلات التي تواجه المستثمرين وسهلت عملية التداول بين مختلف الدول الأوروبية، مما سيسهم في بناء سوق متينة وقوية تعمل فيها الكثير من المنصات وبدون الخوف من أي مشاكل أو عقبات في المستقبل.
السلطات الأمريكية أصبحت كالسرطان يقتل أسواق العملات الرقمية العالمية
تتسبب لجنة الأوراق المالية والمؤسسات التنظيمية الأخرى من خلال الادعاءات والمشاكل التي تفتعلها بشكل مستمر لشركات العملات الرقمية، بضرب البنية التحتية لأسواق العملات الرقمية في أمريكا أولا والعالم ثانيا، وللأسف هذا الأمر يشكل خطرا كبيرا على الأسواق الرقمية العالمية، كونها مبنية عبر تقنية بلوكتشين والويب 3، والتي تعرضت صناعتها أيضا لكثير من المشاكل.
ولكن الجانب المشرق في هذه التقنيات وفي ظل هذا الظرف المحرج، أنها تستطيع أن تجمع مختلف الجهات التنظيمية في مختلف أسواق العالم، ولكن ذلك لا يتحقق إلا بقيان المنظمين والمشرعين بالتعاون سوية والخروج بإطار عمل مشترك ينظم عملية تداول العملات الرقمية في الأسواق العالمية.
ولا عيب إن قامت الدول والمؤسسات بالاستفادة من تجارب غيرها، وخاصة التجارب غير الناجحة التي يمكن دراستها ومعرفة الأخطاء التي ارتكبت فيها، بما يجنب الأسواق الناشئة الكثير من المشاكل والخسائر التي قد تتسبب في إفلاسها قبل انطلاقها حتى.
وفي ظل غياب الأطر التنظيمية اللازمة لعمل المنصات في الولايات المتحدة، فإن ظهور تحالفات بين الدول التي تتبنى العملات الرقمية هو أمر بديهي، وهذا ما تسعى إليه الإمارات وهونغ كونغ اللتان تنويان إيجاد وسائل جديدة تسهل التداول ما وراء الحدود وتسهيل عمليات التداول في مختلف مناطق القارة الآسيوية.
وستسهم مثل هذه التحالفات في هجرة الكثير من شركات العملات الرقمية ومنصاتها خارج نطاق الولايات المتحدة، لتلعب دورا في تنمية عجلة الاقتصاد الرقمي في دول منطقة آسيا وأوروبا، وتسهم في رفع درجة تبني العملات الرقمية وعملية تداولها، بينما تخسر أمريكا حجما كبيرا من الاستثمارات تفوق قيمته مئات مليارات الدولارات.